فصل: فَصْلٌ (مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاعتصام ***


فَصْلٌ ‏[‏الْأَدِلَّةُ مِنَ النَّقْلِ عَلَى ذَمِّ الْبِدَعِ‏]‏

‏[‏مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا‏]‏

وَأَمَّا النَّقْلُ‏;‏ فَمِنْ وُجُوهٍ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ‏:‏

فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ‏}‏‏.‏

فَهَذِهِ الْآيَةُ أَعْظَمُ الشَّوَاهِدِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ تَفْسِيرُهَا‏:‏

فَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ‏:‏ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ‏}‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَإِذَا رَأَيْتِهِمْ فَاعْرِفِيهِمْ‏.‏

وَصَحَّ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ‏:‏ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ‏}‏ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ‏;‏ فَاحْذَرُوهُمْ‏.‏

وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُبْهَمٌ‏.‏

وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا، قَالَتْ‏:‏ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ‏}‏ الْآيَةَ قَالَ‏:‏ فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ، فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ، فَاحْذَرُوهُمْ‏.‏

وَهَذَا أَبْيَنُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ عَلَامَةَ الزَّيْغِ الْجِدَالَ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا الْجِدَالُ مُقَيَّدٌ بِاتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ‏.‏

فَإِذًا، الذَّمُّ إِنَّمَا لَحِقَ مَنْ جَادَلَ فِيهِ بِتَرْكِ الْمُحْكَمِ- وَهُوَ أُمُّ الْكِتَابِ وَمُعْظَمُهُ، وَالتَّمَسُّكِ بِمُتَشَابِهِهِ‏.‏

وَلَكِنَّهُ بَعْدُ مُفْتَقِرٌ إِلَى تَفْسِيرٍ أَظْهَرَ‏.‏

فَجَاءَ عَنْ أَبِي غَالِبٍ وَاسْمُهُ حَزَوَّرٌ قَالَ‏:‏ كُنْتُ بِالشَّامِ، فَبَعَثَ الْمُهَلَّبُ سَبْعِينَ رَأْسًا مِنَ الْخَوَارِجِ، فَنُصِبُوا عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ، فَكُنْتُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لِي فَمَرَّ أَبُو أُمَامَةَ فَنَزَلْتُ فَاتَّبَعْتُهُ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ وَقَالَ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ‏!‏ مَا يَصْنَعُ السُّلْطَانُ بِبَنِي آدَمَ‏!‏ قَالَهَا ثَلَاثًا كِلَابُ جَهَنَّمَ، كِلَابُ جَهَنَّمَ، شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ‏.‏

ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ، فَقَالَ‏:‏ أَبَا غَالِبٍ‏!‏ إِنَّكَ بِأَرْضٍ هُمْ بِهَا كَثِيرٌ، فَأَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْهُمْ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ رَأَيْتُكَ بَكَيْتَ حِينَ رَأَيْتَهُمْ‏.‏

قَالَ‏:‏ بَكَيْتُ رَحْمَةً حِينَ رَأَيْتُهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ‏.‏

فَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ‏}‏ حَتَّى بَلَغَ‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ‏}‏ وَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَزِيغَ بِهِمْ‏.‏

ثُمَّ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ ‏{‏فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ هُمْ هَؤُلَاءِ يَا أَبَا أُمَامَةَ‏؟‏

قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ مِنْ قِبَلِكَ تَقُولُ أَوْ شَيْءٌ سَمِعْتَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏؟‏

قَالَ‏:‏ إِنِّي إِذًا لَجَرِيءٌ، بَلْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا مَرَّةً، وَلَا مَرَّتَيْنِ حَتَّى عَدَّ سَبْعًا‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَزِيدُ عَلَيْهَا فِرْقَةً، كُلُّهُا فِي النَّارِ‏;‏ إِلَّا السَّوَادُ الْأَعْظَمُ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ يَا أَبَا أُمَامَةَ‏!‏ أَلَا تَرَى مَا فَعَلُوا‏؟‏

قَالَ‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

خَرَّجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏;‏ قَالَ‏:‏ قَالَ‏:‏ أَلَا تَرَى مَا فِيهِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْقَتْلُ يَوْمَئِذٍ ظَاهِرٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ‏}‏‏.‏

وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا، وَقَالَ فِيهِ‏:‏ ‏"‏ حَدِيثٌ حَسَنٌ ‏"‏‏.‏

وَخَرَّجَهُ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا بِاخْتِلَافٍ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ وَفِيهِ‏:‏ ‏"‏ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ يَا أَبَا أُمَامَةَ‏!‏ تَقُولُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ ثُمَّ تَبْكِي يَعْنِي قَوْلَهُ‏:‏ شَرُّ قَتْلَى إِلَى آخِرِهِ‏؟‏‏!‏ قَالَ‏:‏ رَحْمَةً لَهُمْ‏;‏ إِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَخَرَجُوا مِنْهُ، ثُمَّ تَلَا‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ‏}‏ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ هُمْ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏}‏ حَتَّى خَتَمَهَا‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ هُمْ هَؤُلَاءِ‏.‏

وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ عَنْ طَاوُسٍ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ ذُكِرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ الْخَوَارِجُ وَمَا يُصِيبُهُمْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ‏:‏ يُؤْمِنُونَ بِمُحْكَمِهِ، وَيَضِلُّونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ‏.‏ وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ‏}‏‏.‏

فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ‏;‏ لِأَنَّ أَبَا أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ الْخَوَارِجَ دَاخِلِينَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَأَنَّهَا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ‏:‏ إِمَّا عَلَى أَنَّهُمْ خَرَجُوا بِبِدْعَتِهِمْ عَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْهُمْ‏;‏ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِمْ‏.‏ وَجَعَلَ هَذِهِ الطَّائِفَةَ مِمَّنْ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَزِيغَ بِهِمْ، وَهَذَا الْوَصْفُ مَوْجُودٌ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ كُلِّهِمْ‏.‏

مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ عَامٌّ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ عَلَى صِفَاتِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ إِنَّمَا نَزَلَ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ وَمُنَاظَرَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَيْثُ تَأَوَّلُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ الْإِلَهُ أَوْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ أَوْ أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، بِأَوْجُهٍ مُتَشَابِهَةٍ، وَتَرَكُوا مَا هُوَ الْوَاضِحُ فِي عُبُودِيَّتِهِ حَسْبَمَا نَقَلَهُ أَهْلُ السِّيَرِ‏؟‏‏!‏

ثُمَّ تَأَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ عَلَى قَضَايَا دَخَلَ أَصْحَابُهَا تَحْتَ حُكْمِ اللَّفْظِ‏;‏ كَالْخَوَارِجِ فَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْعُمُومِ‏.‏

ثُمَّ تَلَا أَبُو أُمَامَةَ الْآيَةَ الْأُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏، وَفَسَّرَهَا بِمَعْنَى مَا فَسَّرَ بِهِ الْآيَةَ الْأُخْرَى، فَهِيَ الْوَعِيدُ وَالتَّهْدِيدُ لِمَنْ تِلْكَ صِفَتُهُ، وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ‏.‏

وَنَقَلَ عُبَيْدٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ الْحَسَنَ كَيْفَ يَصْنَعُ أَهْلُ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ الْخَبِيثَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي آلِ عِمْرَانَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ‏}‏ قَالَ‏:‏ نَبَذُوهَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ‏.‏

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَيْضًا قَالَ‏:‏ هُمُ الْحَرُورِيَّةُ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ‏:‏ سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ‏:‏ مَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَشَدُّ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِلَافِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ قَالَ مَالِكٌ‏:‏ فَأَيُّ كَلَامٍ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا‏؟‏‏!‏ فَرَأَيْتُهُ يَتَأَوَّلُهَا لِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ‏.‏

وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَزَادَ‏:‏ قَالَ لِي مَالِكٌ‏:‏ إِنَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ لِأَهْلِ الْقِبْلَةِ‏.‏

وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْآيَةِ قَدْ نُقِلَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ‏;‏ كَالَّذِي تَقَدَّمَ لِلْحَسَنِ‏.‏

وَعَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا‏}‏ يَعْنِي أَهْلَ الْبِدَعِ‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ‏.‏

وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏‏.‏

فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ سَبِيلُ اللَّهِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ، وَهُوَ السُّنَّةُ، وَالسُّبُلُ هِيَ سُبُلُ الِاخْتِلَافِ الْحَائِدِينَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ سُبُلَ الْمَعَاصِي‏;‏ لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعَاصٍ لَمْ يَضَعْهَا أَحَدٌ طَرِيقًا تُسْلَكُ دَائِمًا عَلَى مُضَاهَاةِ التَّشْرِيعِ، وَإِنَّمَا هَذَا الْوَصْفُ خَاصٌّ بِالْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ‏.‏

وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا رَوَى إِسْمَاعِيلُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏

‏"‏ خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَطًّا طَوِيلًا، وَخَطَّ لَنَا سُلَيْمَانُ خَطًّا طَوِيلًا، وَخَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ‏:‏ هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ثُمَّ خَطَّ لَنَا خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَقَالَ‏:‏ هَذِهِ سُبُلٌ وَعَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ‏}‏ يَعْنِي الْخُطُوطَ ‏{‏فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ‏}‏‏.‏

قَالَ بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ‏:‏ ‏"‏ أَحْسَبُهُ أَرَادَ شَيْطَانًا مِنَ الْإِنْسِ، وَهِيَ الْبِدَعُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ‏"‏‏.‏

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ سَلَمَةَ الْهَمْدَانِيِّ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ كُنَّا جُلُوسًا فِي حَلْقَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ بَطْحَاءُ قَبْلَ أَنْ يُحَصِّبَ، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَ أَتَى غَازِيًا‏:‏ مَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هُوَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ أَبُوكَ حَتَّى دَخَلَ الْجَنَّةَ‏.‏

ثُمَّ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَ أَيْمَانٍ وَلَاءً، ثُمَّ خَطَّ فِي الْبَطْحَاءِ خَطًّا بِيَدِهِ، وَخَطَّ بِجَنْبَيْهِ خُطُوطًا، وَقَالَ‏:‏ تَرَكَكُمْ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرَفِهِ، وَطَرَفُهُ الْآخَرُ فِي الْجَنَّةِ، فَمِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ أَخَذَ فِي هَذِهِ الْخُطُوطِ هَلَكَ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ ‏"‏ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ‏!‏ مَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدْنَاهُ، وَطَرَفُهُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَنْ يَمِينِهِ جَوَادٌ وَعَنْ يَسَارِهِ جَوَادٌ، وَعَلَيْهَا رِجَالٌ يَدْعُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ‏:‏ هَلُمَّ لَكَ‏!‏ هَلُمَّ لَكَ‏!‏ فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ فِي تِلْكَ الطُّرُقِ‏;‏ انْتَهَتْ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَمَنِ اسْتَقَامَ إِلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ‏;‏ انْتَهَى بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، ثُمَّ تَلَا ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ‏}‏ الْآيَةَ كُلَّهُا‏.‏

وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْبِدَعُ وَالشُّبُهَاتُ‏.‏

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيِّ‏:‏ ‏"‏ قَدْ سُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنِ السُّنَّةِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هِيَ مَا لَا اسْمَ لَهُ غَيْرُ السُّنَّةِ، وَتَلَا‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ‏}‏‏.‏

قَالَ بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ‏:‏ يُرِيدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَّ لَهُ خَطًّا، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ‏.‏

فَهَذَا التَّفْسِيرُ يَدُلُّ عَلَى شُمُولِ الْآيَةِ لِجَمِيعِ طُرُقِ الْبِدَعِ، لَا تَخْتَصُّ بِبِدْعَةٍ دُونَ أُخْرَى‏.‏

وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏.‏

فَالسَّبِيلُ الْقَصْدُ هُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ، وَمَا سِوَاهُ جَائِرٌ عَنِ الْحَقِّ‏;‏ أَيْ‏:‏ عَادِلٌ عَنْهُ، وَهِيَ طُرُقُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ سُلُوكِهَا بِفَضْلِهِ، وَكَفَى بِالْجَائِرِ أَنْ يُحَذَّرَ مِنْهُ، فَالْمَسَاقُ يَدُلُّ عَلَى التَّحْذِيرِ وَالنَّهْيِ‏.‏

وَذَكَرَ ابْنُ وَضَّاحٍ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ سُئِلَ عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ، وَقِيلَ لَهُ‏:‏ أَبَا بَكْرٍ‏!‏، هَلْ رَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ‏;‏ قَالَ‏:‏ خَطَّ عَبْدُ اللَّهِ خَطًّا مُسْتَقِيمًا، وَ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَخُطُوطًا عَنْ شِمَالِهِ، فَقَالَ‏:‏ خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا، فَقَالَ لِلْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ‏:‏ هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، وَلِلْخُطُوطِ الَّتِي عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ‏:‏ هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ‏;‏ وَالسَّبِيلُ مُشْتَرَكَةٌ‏;‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ‏}‏ إِلَى آخِرِهَا‏.‏

عَنِ التُّسْتُرِيِّ‏:‏ ‏{‏قَصْدُ السَّبِيلِ‏}‏‏:‏ طَرِيقُ السُّنَّةِ، ‏{‏وَمِنْهَا جَائِرٌ‏}‏ ‏;‏يَعْنِي‏:‏ إِلَى النَّارِ، وَذَلِكَ الْمِلَلُ وَالْبِدَعُ ‏"‏‏.‏

وَعَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏قَصْدُ السَّبِيلِ‏}‏ ‏;‏ أَيِ الْمُقْتَصِدُ مِنْهَا بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ الْجَائِرَ هُوَ الْغَالِي أَوِ الْمُقَصِّرُ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَوْصَافِ الْبِدَعِ‏.‏

وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا‏:‏ ‏"‏ فَمِنْكُمْ جَائِرٌ ‏"‏ ‏;‏ قَالُوا‏:‏ يَعْنِي هَذِهِ الْأُمَّةَ، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعَ الْآيَةِ قَبْلَهَا يَتَوَارَدَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ‏.‏

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ‏}‏‏.‏

هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ جَاءَ تَفْسِيرُهَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ‏:‏

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ يَا عَائِشَةُ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا‏}‏ مَنْ هُمْ‏؟‏

قُلْتُ‏:‏ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ هُمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ، وَأَصْحَابُ الْبِدَعِ، وَأَصْحَابُ الضَّلَالَةِ‏;‏ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَا عَائِشَةُ إِنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً، مَا خَلَا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَةٌ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مِنِّي بُرَآءٌ‏.‏‏؟‏‏.‏

قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ‏:‏ ‏"‏ هَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالشُّذُوذِ فِي الْفُرُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْجِدَالِ وَالْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ، هَذِهِ كُلُّهُا عُرْضَةٌ لِلزَّلَلِ وَمَظِنَّةٌ لِسُوءِ الْمُعْتَقَدِ‏.‏

وَيُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْفُرُوعِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي فَصْلِ ذَمِّ الرَّأْيِ مِنْ ‏"‏ كِتَابِ الْعِلْمِ ‏"‏ لَهُ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بِحَوْلِ اللَّهِ‏.‏

وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ لَقِيتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ بِمَكَّةَ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ شَيْءٍ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ مِنْ أَيْنَ أَنْتَ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ‏:‏ أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ مِنْ أَيِّ الْأَصْنَافِ أَنْتَ‏؟‏، قُلْتُ‏:‏ مِمَّنْ لَا يَسُبُّ السَّلَفَ، وَيُؤْمِنُ بِالْقَدْرِ وَلَا يُكَفِّرُ أَحَدًا بِذَنْبٍ، فَقَالَ عَطَاءٌ‏:‏ عَرَفْتَ فَالْزَمْ‏.‏

وَعَنِ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ خَرَجَ عَلَيْنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا يَخْطُبُنَا، فَقَطَعُوا عَلَيْهِ كَلَامَهُ، فَتَرَامَوْا بِالْبَطْحَاءِ، حَتَّى جَعَلْتُ مَا أُبْصِرُ أَدِيمَ السَّمَاءِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَسَمِعْنَا صَوْتًا مِنْ بَعْضِ حُجَرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ‏:‏ هَذَا صَوْتُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ‏!‏

قَالَ‏:‏ فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ‏:‏ أَلَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ قَدْ بَرِئَ مِمَّنْ فَرَّقَ دِينَهُ وَاحْتَزَبَ، وَتَلَتْ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏‏.‏

قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ‏:‏ ‏"‏ أَحْسَبُهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ‏:‏ أُمَّ سَلَمَةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَاجَّةً‏.‏

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ‏.‏

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ‏:‏ هُمُ الْخَوَارِجُ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي‏:‏ ‏"‏ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ بِدْعَةً مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ‏;‏ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏;‏ لِأَنَّهُمْ إِذَا ابْتَدَعُوا تَجَادَلُوا وَتَخَاصَمُوا وَتَفَرَّقُوا وَكَانُوا شِيَعًا‏.‏

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏‏.‏ قُرِئَ‏:‏ ‏"‏ فَارَقُوا دِينَهُمْ ‏"‏‏.‏

وَفُسِّرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمُ الْخَوَارِجُ‏.‏ وَرَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ مَرْفُوعًا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ‏.‏

قَالُوا‏:‏ رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ مَنِ ابْتَدَعَ‏;‏ حَسْبَمَا قَالَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، وَكَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيِ الْأُخَرِ‏.‏

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏‏.‏

فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ لَبَّسَكُمْ شِيَعًا هُوَ الْأَهْوَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ‏.‏

وَيَكُونُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏‏:‏ تَكْفِيرُ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ حَتَّى يَتَقَاتَلُوا، كَمَا جَرَى لِلْخَوَارِجِ حِينَ خَرَجُوا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَعْنَى ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا‏}‏‏:‏ مَا فِيهِ إِلْبَاسٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ‏.‏

وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ الْآيَةَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏"‏ هُنَّ أَرْبَعٌ، ظَهَرَ اثْنَتَانِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً‏:‏ فَأُلْبِسُوا شِيَعًا، وَأُذِيقُ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، وَبَقِيَتِ اثْنَتَانِ، فَهُمَا وَلَا بُدَّ وَاقِعَتَانِ، الْخَسْفُ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، وَالْمَسْخُ مِنْ فَوْقِكُمْ ‏"‏‏.‏

وَهَذَا كُلُّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَهْوَاءِ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مَحْبُوبٍ، وَمَذْمُومٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ‏.‏

وَفِيمَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏‏:‏

قَالَ فِي الْمُخْتَلِفِينَ‏:‏ إِنَّهُمْ أَهْلُ الْبَاطِلِ‏.‏

‏{‏إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ‏}‏ ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ فَإِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ لَيْسَ فِيهِمُ اخْتِلَافٌ ‏"‏‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَوْ كَانَتِ الْأَهْوَاءُ كُلُّهُا وَاحِدًا‏;‏ لَقَالَ الْقَائِلُ‏:‏ لَعَلَّ الْحَقَّ فِيهِ‏!‏ فَلَمَّا تَشَعَّبَتْ وَتَفَرَّقَتْ‏;‏ عَرَفَ كُلُّ ذِي عَقْلٍ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَفَرَّقُ‏.‏

وَعَنْ عِكْرِمَةَ ‏{‏وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏ يَعْنِي فِي الْأَهْوَاءِ ‏{‏إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ‏}‏ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ‏.‏

وَنَقَلَ أَبُو بَكْرٍ ثَابِتٌ الْخَطِيبُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ‏;‏ قَالَ‏:‏ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْحَسَنِ وَرَجُلٌ خَلْفِي قَاعِدٌ، فَجَعَلَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ ‏{‏لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏ عَلَى أَدْيَانٍ شَتَّى ‏{‏إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ‏}‏، فَمَنْ رَحِمَ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ‏.‏

وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ‏:‏ أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ‏.‏

وَلِهَذِهِ الْآيَةِ بَسْطٌ يَأْتِي بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرٍو عَنْ مُصْعَبٍ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ سَأَلْتُ أَبِي عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا‏}‏ ‏;‏ هُمُ الْحَرُورِيَّةُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا ‏;‏ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ‏;‏ فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَذَّبُوا بِالْجَنَّةِ، وَقَالُوا‏:‏ لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ‏.‏ وَالْحَرُورِيَّةُ ‏{‏الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ‏}‏‏.‏

وَكَانَ شُعْبَةُ يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ‏.‏

وَفِي تَفْسِيرِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ قُلْتُ لِأَبِي‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏}‏ ‏;‏ أَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا‏!‏ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ، وَلَكِنَّ الْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏‏.‏

وَخَرَّجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي ‏(‏تَفْسِيرِهِ‏)‏ هَذَا الْمَعْنَى بِلَفْظٍ آخَرَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏}‏، قُلْتُ‏:‏ أَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا ‏;‏ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النَّصَارَى‏;‏ فَكَفَرُوا بِالْجَنَّةِ، وَقَالُوا‏:‏ لَيْسَ فِيهَا طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ، وَلَكِنَّ الْحَرُورِيَّةُ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ‏}‏

فَالْأَوَّلُ‏:‏ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ بِشَهَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةَ، وَكَذَا فَعَلَ الْمُبْتَدِعَةُ وَهُوَ بَابُهُمُ الَّذِي دَخَلُوا فِيهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ لِأَنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ هَذَا التَّصَرُّفَ‏.‏

فَأَهْلُ حَرُورَاءَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْخَوَارِجِ قَطَعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ‏}‏ عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ‏}‏ وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَا فَعَلَ سَائِرُ الْمُبْتَدِعَةِ حَسْبَمَا يَأْتِيكَ بِحَوْلِ اللَّهِ‏.‏

وَمِنْهُ ‏[‏مَا‏]‏ رَوَى عَمْرُو بْنُ مُهَاجِرٍ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ بَلَغَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ غَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ يَقُولُ فِي الْقَدَرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَحَجَبَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ أَدْخَلَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ‏:‏ يَا غَيْلَانُ‏!‏ مَا هَذَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكَ‏؟‏ ‏"‏‏.‏

قَالَ عَمْرُو بْنُ مُهَاجِرٍ‏:‏ ‏"‏ فَأَشَرْتُ إِلَيْهِ أَلَّا يَقُولَ شَيْئًا ‏"‏‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ فَقَالَ‏:‏ نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا‏}‏‏.‏

قَالَ عُمَرُ‏:‏ اقْرَأْ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ مَا تَقُولُ يَا غَيْلَانُ‏؟‏

قَالَ أَقُولُ‏:‏ قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَبَصَّرْتَنِي، وَأَصَمَّ فَأَسْمَعْتَنِي، وَضَالًّا فَهَدَيْتَنِي‏.‏

فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ غَيْلَانُ صَادِقًا، وَإِلَّا فَاصْلُبْهُ ‏"‏‏.‏

قَالَ فَأَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْقَدَرِ، فَوَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ دَارَ الضَّرْبِ بِدِمَشْقَ، فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى هِشَامٍ‏;‏ تَكَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ هِشَامٌ، فَقَطَعَ يَدَهُ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ وَالذُّبَابُ عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ‏:‏ يَا غَيْلَانُ‏!‏ هَذَا قَضَاءٌ وَقَدَرٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ كَذَبْتَ- لَعَمْرُ اللَّهِ- مَا هَذَا قَضَاءٌ وَلَا قَدَرٌ‏;‏ فَبَعَثَ إِلَيْهِ هِشَامٌ فَصَلَبَهُ ‏"‏‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ لِأَنَّ الْحَرُورِيَّةَ جَرَّدُوا السُّيُوفَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَهُوَ غَايَةُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ شَائِعٌ، وَسَائِرُهُمْ يُفْسِدُونَ بِوُجُوهٍ مِنْ إِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ‏.‏

وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ تَقْتَضِيهَا الْفِرْقَةُ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ‏:‏

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا‏}‏ وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا‏}‏‏.‏

وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ الْأُمَّةَ تَتَفَرَّقُ عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ‏"‏‏.‏

وَهَذَا التَّفْسِيرُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى لِمُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ أَيْضًا، فَقَدْ وَافَقَ أَبَاهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ‏.‏

ثُمَّ فَسَّرَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ‏:‏ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ الزَّيْغِ الْحَاصِلِ فِيهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى آيَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ‏}‏‏.‏ الْآيَةَ‏;‏ فَإِنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَدْخَلَ الْحَرُورِيَّةُ فِي الْآيَتَيْنِ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ الزَّيْغُ فِي إِحْدَاهُمَا، وَالْأَوْصَافُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأُخْرَى‏;‏ لِأَنَّهَا فِيهِمْ مَوْجُودَةٌ‏.‏

فَآيَةُ الرَّعْدِ تَشْمَلُ ‏[‏الْحَرُورِيَّةَ‏]‏ بِلَفْظِهَا‏;‏ لِأَنَّ اللَّفْظَ فِيهَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لُغَةً، وَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْكُفَّارِ خُصُوصًا‏;‏ فَهِيَ تُعْطِي أَيْضًا فِيهِمْ حُكْمًا مِنْ جِهَةِ تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ حَسْبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْأُصُولِ‏.‏

وَكَذَلِكَ آيَةُ الصَّفِّ‏;‏ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِقَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْ هُنَا كَانَ شُعْبَةُ يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ أَعْنِي‏:‏ الْحَرُورِيَّةَ لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ وَاقِعٌ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ جَاءَ فِيهَا‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ‏}‏، وَالزَّيْغُ أَيْضًا كَانَ مَوْجُودًا فِيهِمْ، فَدَخَلُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏، وَمِنْ هُنَا يُفْهَمُ أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ بِالْحَرُورِيَّةِ، بَلْ تَعُمُّ كُلَّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الَّتِي أَصْلُهَا الزَّيْغُ، وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى‏.‏

وَإِنَّمَا فَسَّرَهَا سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْحَرُورِيَّةِ‏;‏ لِأَنَّهُ إِنَّمَا سُئِلَ عَنْهُمْ عَلَى الْخُصُوصِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏;‏ لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ تَخْصِيصًا‏.‏

وَأَمَّا الْمَسْئُولُ عَنْهَا أَوَّلًا وَهِيَ آيَةُ الْكَهْفِ فَإِنَّ سَعْدًا نَفَى أَنْ تَشْمَلَ الْحَرُورِيَّةَ‏.‏

وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَسَّرَ ‏{‏الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا‏}‏ بِالْحَرُورِيَّةِ أَيْضًا‏.‏

فَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ قَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ‏!‏ مَنِ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏؟‏

قَالَ‏:‏ مِنْهُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ ‏"‏‏.‏

وَهُوَ أَيْضًا مَنْقُولٌ فِي ‏"‏ تَفْسِيرِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ‏"‏‏.‏

وَفِي ‏"‏ جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ ‏"‏‏:‏ ‏"‏ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْآيَةِ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ‏:‏ ارْقَ إِلَيَّ أُخْبِرْكَ وَكَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَرَقِيَ إِلَيْهِ دَرَجَتَيْنِ، فَتَنَاوَلَهُ بِعَصًا كَانَتْ فِي يَدِهِ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِهَا، ثُمَّ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ‏:‏ أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ ‏"‏‏.‏

وَخَرَّجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ‏;‏ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَوْدٍ‏:‏ ‏"‏ أَنَّ عَلِيًّا خَطَبَ النَّاسَ بِالْعِرَاقِ وَهُوَ يَسْمَعُ، فَصَاحَ بِهِ ابْنُ الْكَوَّاءِ مِنْ أَقْصَى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ‏!‏ مَنِ ‏{‏الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا‏}‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَنْتَ، فَقُتِلَ ابْنُ الْكَوَّاءِ يَوْمَ الْخَوَارِجِ ‏"‏‏.‏

وَنَقَلَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ‏:‏ ‏"‏ أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَهُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَنْتُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ، وَأَهْلُ الرِّيَاءِ، وَالَّذِينَ يُحْبِطُونَ الصَّنِيعَةَ بِالْمِنَّةِ ‏"‏‏.‏

فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ حَرُورَاءَ بَعْضُ مَنْ شَمِلَتْهُ الْآيَةُ‏.‏

وَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِهِمْ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ ‏;‏ وَصَفَهُمْ بِالضَّلَالِ مَعَ ظَنِّ الِاهْتِدَاءِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ الْمُبْتَدِعُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ عُمُومًا، كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوَّلًا، مِنْ حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ‏:‏ كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ بِعَوْنِ اللَّهِ‏.‏

فَقَدْ يَجْتَمِعُ التَّفْسِيرَانِ فِي الْآيَةِ، تَفْسِيرُ سَعْدٍ بِأَنَّهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَتَفْسِيرُ عَلِيٍّ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْبِدْعَةِ‏;‏ لِأَنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى الِابْتِدَاعِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ كُفْرَ النَّصَارَى بِأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا فِي الْجَنَّةِ غَيْرَ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّأْوِيلُ بِالرَّأْيِ‏.‏

فَاجْتَمَعَتِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ عَلَى ذَمِّ الْبِدْعَةِ وَأَهْلِهَا، وَأَشْعَرَ كَلَامُ سَعِدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بِأَنَّ كُلَّ آيَةٍ اقْتَضَتْ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ الْمُبْتَدِعَةِ، فَهُمْ مَقْصُدُونَ بِمَا فِيهَا مِنَ الذَّمِّ وَالْخِزْيِ وَسُوءِ الْجَزَاءِ، إِمَّا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْوَصْفِ‏.‏

وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِكِتَابٍ فِي كَتِفٍ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ كَفَى بِقَوْمٍ حُمْقًا أَوْ قَالَ‏:‏ ضَلًالًا أَنْ يَرْغَبُوا عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ إِلَى غَيْرِ نَبِيِّهِمْ، أَوْ كِتَابٍ إِلَى غَيْرِ كِتَابِهِمْ ‏"‏ فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ‏}‏‏.‏

وَخَرَّجَ عَبْدُ الْحَمِيدِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ‏"‏، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ‏}‏ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ‏.‏

وَخَرَّجَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ‏}‏ ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَا قَدَّمَتْ مِنْ عَمَلِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ يُعْمَلُ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ ‏"‏‏.‏

وَهَذَا التَّفْسِيرُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَا قَدَّمَتْ مِنْ خَيْرٍ، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ صَالِحَةٍ يُعْمَلُ بِهَا مِنْ بَعْدِهَا، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ سَيِّئَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا ‏"‏‏.‏

خَرَّجَهُ ابْنُ مُبَارَكٍ وَغَيْرُهُ‏.‏

وَجَاءَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَ أَبِي قِلَابَةَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ ‏"‏ كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ أَوْ فِرْيَةٍ ذَلِيلٌ ‏"‏، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ‏}‏‏.‏

وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ‏}‏ ‏;‏ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ مَا قَدَّمُوا مِنْ خَيْرٍ، وَآثَارَهُمُ الَّتِي أَوْرَثُوا النَّاسَ بَعْدَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ‏.‏

وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ إِنِّي أَرَى أَسْرَعَ النَّاسِ رِدَّةً، أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ ‏"‏‏.‏

قَالَ ابْنُ عَوْنٍ‏:‏ ‏"‏ وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏‏.‏

وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ أَنَّهُ ذَكَرَ أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْجَوْزَاءِ بِيَدِهِ‏;‏ لِأَنْ تَمْتَلِئَ دَارِي قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُجَاوِرَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَلَقَدْ دَخَلُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏‏.‏

وَالْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ وَالْمُشِيرَةُ إِلَى ذَمِّهِمْ وَالنَّهْيِ عَنْ مُلَابَسَةِ أَحْوَالِهِمْ كَثِيرَةٌ، فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَفِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَوْعِظَةُ لِمَنِ اتَّعَظَ، وَالشِّفَاءُ لِمَا فِي الصُّدُورِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا‏]‏

الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ النَّقْلِ‏:‏ مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏

وَهِيَ كَثِيرَةٌ تَكَادُ تَفُوتُ الْحَصْرَ‏;‏ إِلَّا أَنَّا نَذْكُرُ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْبَاقِي وَنَتَحَرَّى فِي ذَلِكَ بِحَوْلِ اللَّهِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الصِّحَّةِ‏.‏

فَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ‏;‏ فَهُوَ رَدٌّ‏.‏ وَفِي رِوَايَةٍ لِـ مُسْلِمٍ‏:‏ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا‏;‏ فَهُوَ رَدٌّ‏.‏

وَهَذَا الْحَدِيثُ عَدَّهُ الْعُلَمَاءُ ثُلُثَ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ جَمَعَ وَجْهَ الْمُخَالَفَةِ لِأَمْرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَا كَانَ بِدْعَةً أَوْ مَعْصِيَةً‏.‏

وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ‏:‏ ‏"‏ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ‏"‏‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏;‏ قَالَ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ، يَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَخَيْرُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ‏:‏ ‏"‏ وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ فِي النَّارِ ‏"‏‏.‏

وَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَخْطُبُ بِهَذِهِ الْخُطْبَةِ‏.‏

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ‏:‏ الْكَلَامُ، وَالْهُدَى، فَأَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، أَلَا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، إِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ‏"‏‏.‏

وَفِي لَفْظٍ‏:‏ ‏"‏ غَيْرَ أَنَّكُمْ سَتُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ، فَكُلُّ مُحْدَثَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ ‏"‏‏.‏

وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَخْطُبُ بِهَذَا كُلَّ خَمِيسٍ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ‏:‏ ‏"‏ إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ‏:‏ الْهُدَى، وَالْكَلَامُ، فَأَفْضَلُ الْكَلَامِ أَوْ أَصْدَقُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، أَلَا لَا يَتَطَاوَلَنَّ عَلَيْكُمُ الْأَمْرُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ، وَلَا يُلْهِيَنَّكُمُ الْأَمَلُ، فَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، أَلَا إِنَّ بَعِيدًا مَا لَيْسَ آتِيًا‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ‏:‏ ‏"‏ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَ ‏{‏إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ‏}‏‏.‏

وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ‏.‏

وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ دَعَا إِلَى الْهُدَى‏;‏ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ يَتْبَعُهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ يَتْبَعُهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا‏;‏ فَلَهُ أَجْرُهُ، وَمِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعُهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ سَنَّ سُنَّةَ شَرٍّ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا‏;‏ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا‏.‏

أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ‏.‏

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ‏:‏ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ‏.‏ فَقَالَ قَائِلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ كَأَنَّ هَذَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا‏؟‏

فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا‏;‏ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِيشُ مِنْكُمْ بَعْدِي‏;‏ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ‏.‏

وَرُوِيَ عَلَى وُجُوهٍ مِنْ طُرُقٍ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ حُذَيْفَةَ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏!‏ هَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ نَعَمْ‏;‏ قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْتَدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي ‏"‏‏.‏

قَالَ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ شَرٍّ‏؟‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ، قَذَفُوهُ فِيهَا ‏"‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ نَعَمْ‏;‏ هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا ‏"‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ‏؟‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ ‏"‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِمَامٌ وَلَا جَمَاعَةٌ‏؟‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهُا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ ‏"‏‏.‏

وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَلَى نَحْوٍ آخَرَ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيفَةِ‏:‏ الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا‏;‏ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا ‏"‏‏.‏

وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي سِيَاقِ الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ حَدَثٍ أُحْدِثَ فِيهَا مِمَّا يُنَافِي الشَّرْعَ، وَالْبِدَعُ مِنْ أَقْبَحِ الْحَدَثِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ فِي مَسْأَلَةٍ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا بِحَوْلِ اللَّهِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمَدِينَةِ‏;‏ فَغَيْرُهَا أَيْضًا يَدْخُلُ فِي الْمَعْنَى‏.‏

وَفِي الْمُوَطَّأِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمَقْبَرَةِ‏:‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ‏"‏ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ فِيهِ فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ، أَلَا هَلُمَّ، فَيُقَالُ‏:‏ إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ‏.‏ فَأَقُولُ‏:‏ فَسُحْقًا فَسُحْقًا فَسُحْقًا‏.‏

حَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَحَمَلَهُ آخَرُونَ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ‏.‏

وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ مَا خَرَّجَهُ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ‏;‏ قَالَ‏:‏ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، فَقُلْتُ‏:‏ إِنَّ هَاهُنَا قَوْمًا يَشْهَدُونَ عَلَيْنَا بِالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَيُكَذِّبُونَ بِالْحَوْضِ وَالشَّفَاعَةِ، فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏;‏ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْكُفْرِ أَوِ الشِّرْكِ تَرْكُ الصَّلَاةِ، فَإِذَا تَرَكَهَا فَقَدْ أَشْرَكَ، وَحَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى مَكَّةَ، أَبَارِيقُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ أَوْ قَالَ‏:‏ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ، لَهُ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، كُلَّمَا نَضَبَ أَمَدَّاهُ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَسَيَرِدُهُ أَقْوَامٌ ذَابِلَةٌ شِفَاهُهُمْ، فَلَا يُطْعَمُونَ مِنْهُ قَطْرَةً وَاحِدَةً‏.‏ مَنْ كَذَّبَ بِهِ الْيَوْمَ، لَمْ يُصِبْ مِنْهُ الشَّرَابَ يَوْمَئِذٍ‏.‏

فَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، فَنِسْبَتُهُمْ أَهْلَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ مِنْ أَوْصَافِ الْخَوَارِجِ، وَالتَّكْذِيبُ بِالْحَوْضِ مِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ وَغَيْرِهِمْ‏.‏

مَعَ مَا فِي حَدِيثِ ‏"‏ الْمُوَطَّأِ ‏"‏ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَلَا هَلُمَّ لِأَنَّهُ عَرَفَهُمْ بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ الَّذِي جَعَلَهُ مِنْ خَصَائِصِ أُمَّتِهِ، وَإِلَّا‏;‏ فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْأُمَّةِ‏;‏ لَمْ يَعْرِفْهُمْ بِالْعَلَامَةِ الْمَذْكُورَةِ‏.‏

وَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ‏:‏ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَوْعِظَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ‏)‏‏.‏

قَالَ‏:‏ أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَإِنَّهُ يُسْتَدْعَى بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ‏:‏ ‏{‏وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏، فَيُقَالُ‏:‏ هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتُهُمْ ‏"‏‏.‏

وَيَحْتَمِلُ هَذَا الْحَدِيثُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَهْلُ الْبِدَعِ، كَحَدِيثِ ‏"‏ الْمُوَطَّأِ ‏"‏، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنِ ارْتَدَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَفِي التِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً‏.‏

حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي الْحَدِيثِ رِوَايَاتٌ أُخَرُ، سَيَأْتِي ذِكْرُهَا وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏ وَلَكِنَّ الْفِرَقَ فِيهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ فِرَقُ أَهْلِ الْبِدَعِ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ‏:‏ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا‏.‏

وَهُوَ آتٍ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ‏.‏

وَفِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا‏;‏ فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ، حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ‏;‏ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَضَلَلْتُمْ الْحَدِيثَ‏.‏

فَتَأَمَّلُوا كَيْفَ جُعِلَ تَرْكُ السُّنَّةِ ضَلَالَةً‏!‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ لَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكَفَرْتُمْ، وَهُوَ أَشَدُّ فِي التَّحْذِيرِ‏.‏

وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏

إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ، أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ فِيهِ الْهُدَى مَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ وَأَخَذَ بِهِ‏;‏ كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ‏;‏ ضَلَّ وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلَالَةٍ‏.‏

وَمِمَّا جَاءَ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مَا خَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ وَنَحْوُهُ لِابْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏;‏ قَالَ‏:‏ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، يَأْتُونَكُمْ بِبِدْعٍ مِنَ الْحَدِيثِ، لَمْ تَسْمَعُوهُ أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ إِيَّاهُمْ لَا يَفْتِنُونَكُمْ‏.‏

وَفِي التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ‏:‏ مَنْ أَحْيَا سُّنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي، فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِ النَّاسِ شَيْئًا، حَدِيثٌ حَسَنٌ‏.‏

وَلِابْنِ وَضَّاحٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا‏:‏

مَنْ أَتَى صَاحِبَ بِدْعَةٍ لِيُوَقِّرَهُ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ‏.‏

وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ لَا تُوقَفَ عَلَى الصِّرَاطِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى تَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَلَا تُحْدِثْ فِي دِينِ اللَّهِ حَدَثًا بِرَأْيِكَ‏.‏

وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مَنِ اقْتَدَى بِي، فَهُوَ مِنِّي، وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي‏;‏ فَلَيْسَ مِنِّي‏.‏

وَخَرَّجَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ سِتَّةٌ أَلْعَنُهُمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَكُلُّ نَبِيٍّ مُجَابٍ‏:‏ الزَّائِدُ فِي دِينِ اللَّهِ، وَالْمُكَذِّبُ بِقَدَرِ اللَّهِ، وَالْمُتَسَلِّطُ بِالْجَبَرُوتِ يُذِلُّ بِهِ مَنْ أَعَزَّ اللَّهُ وَيَعِزُّ بِهِ مَنْ أَذَلَّ اللَّهُ، وَالتَّارِكُ لِسُنَّتِي، وَالْمُسْتَحِلُّ لِحَرَمِ اللَّهِ، وَالْمُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتِي مَا حَرَّمَ اللَّهُ‏.‏

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ ثَابِتٍ الْخَطِيبِ‏:‏ سِتَّةٌ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنْتُهُمْ، وَفِيهِ‏:‏ وَالرَّاغِبُ عَنْ سُنَّتِي إِلَى بِدَعٍ‏.‏

وَفِي الطَّحَاوِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ إِنَّ لِكُلِّ عَابِدٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَإِمَّا إِلَى سُّنَّةٍ وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي، فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ هَلَكَ‏.‏

وَفِي مُعْجَمِ الْبَغَوِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏;‏ قَالَ‏:‏ ذَكَرُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْلَاةً لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالُوا‏:‏ إِنَّهَا قَامَتِ اللَّيْلَ وَصَامَتِ النَّهَارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَكِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، فَمَنِ اقْتَدَى بِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي، إِنَّ لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّةً ثُمَّ فَتْرَةً، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى بِدْعَةٍ، فَقَدْ ضَلَّ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُّنَّةٍ فَقَدِ اهْتَدَى‏.‏

وَعَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏:‏ رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْمُمَثِّلِينَ‏.‏

وَفِي ‏"‏ مُنْتَقَى حَدِيثِ خَيْثَمَةَ ‏"‏ عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ سَيَكُونُ مِنْ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا، فَيُحْدِثُونَ الْبِدْعَةَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ فَكَيْفَ أَصْنَعُ إِذَا أَدْرَكْتُهُمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ تَسْأَلُنِي يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ كَيْفَ تَصْنَعُ‏؟‏ لَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ‏.‏

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ أَكَلَ طَيِّبًا، وَعَمِلَ فِي سُنَّةٍ، وَأَمِنَ النَّاسُ بَوَائِقَهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏!‏ إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ فِي النَّاسِ لَكَثِيرٌ، قَالَ‏:‏ وَسَيَكُونُ فِي قُرُونٍ بَعْدِي، حَدِيثٌ غَرِيبٌ‏.‏

وَفِي كِتَابِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ أَوْ قَالَ‏:‏ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً، وَتَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ، قَدْ مَرَجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، اخْتَلَفُوا فَصَارَتْ هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ قَالُوا‏:‏ وَكَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ تَأْخُذُونَ بِمَا تَعْرِفُونَ، وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ، وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ‏.‏

وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ مُرْسَلًا‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ إِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ، قَالُوا‏:‏ وَمَا الشِّعَابُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الْأَهْوَاءُ‏.‏

وَخَرَّجَ أَيْضًا‏:‏ إِنَّ اللَّهَ لَيُدْخِلُ الْعَبْدَ الْجَنَّةَ بِالسُّنَّةِ يَتَمَسَّكُ بِهَا‏.‏

وَفِي كِتَابِ السُّنَّةِ لِلْآجُرِّيِّ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مُعَاذَ بْنِ جَبَلٍ‏;‏ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِذَا حَدَثَ فِي أُمَّتِي الْبِدَعُ، وَشُتِمَ أَصْحَابِي، فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلْمَهُ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏.‏

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ‏:‏ فَقُلْتُ لِلْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ‏:‏ مَا إِظْهَارُ الْعِلْمِ‏؟‏

قَالَ‏:‏ إِظْهَارُ السُّنَّةِ‏.‏ وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ‏.‏

وَلْيَعْلَمِ الْمُوَفَّقُ أَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ يَقْصُرُ عَنْ رُتْبَةِ الصَّحِيحِ، وَإِنَّمَا أُتِيَ بِهَا عَمَلًا بِمَا أَصَّلَهُ الْمُحَدِّثُونَ فِي أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ ذَمُّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ الْقُرْآنِيِّ وَالدَّلِيلِ السُّنِّيِّ الصَّحِيحِ، فَمَا زِيدَ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا حَرَجَ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏مَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا‏]‏

الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ النَّقْلِ مَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا‏:‏

وَهُوَ كَثِيرٌ‏.‏

فَمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ‏:‏

مَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ أَيُّهَا النَّاسُ‏!‏ قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ، وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ، إِلَّا أَنْ تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِينًا وَشِمَالًا ‏"‏‏.‏

وَصَفَّقَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏"‏ إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ‏:‏ لَا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا ‏"‏ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ‏!‏ اسْتَقِيمُوا‏;‏ فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا، لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلًالًا بَعِيدًا‏.‏

وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ، فَيَقِفُ عَلَى الْحِلَقِ، فَيَقُولُ‏:‏ ‏"‏ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ‏!‏ اسْلُكُوا الطَّرِيقَ، فَلَئِنْ سَلَكْتُمُوهَا‏;‏ لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا، لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلًالًا بَعِيدًا ‏"‏‏.‏

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ‏:‏ فَوَاللَّهِ لَئِنِ اسْتَقَمْتُمْ‏;‏ لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا‏.‏ الْحَدِيثَ

وَعَنْهُ أَيْضًا‏:‏ ‏"‏ أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى النَّاسِ اثْنَتَانِ‏:‏ أَنْ يُؤْثِرُوا مَا يَرَوْنَ عَلَى مَا يَعْمَلُونَ، وَأَنْ يَضِلُّوا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏"‏‏.‏ قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ وَهُوَ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ‏.‏

وَعَنْهُ أَيْضًا‏:‏ أَنَّهُ أَخَذَ حَجَرَيْنِ، فَوَضَعَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ‏:‏ ‏"‏ هَلْ تَرَوْنَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنَ النُّورِ ‏"‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا نَرَى بَيْنَهُمَا مِنَ النُّورِ إِلَّا قَلِيلًا‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ‏;‏ لَتَظْهَرَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى لَا يُرَى مِنَ الْحَقِّ إِلَّا قَدْرُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنَ النُّورِ، وَاللَّهِ لَتَفْشُوَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى إِذَا تُرِكَ مِنْهَا شَيْءٌ‏;‏ قَالُوا‏:‏ تُرِكَتِ السُّنَّةُ ‏"‏‏.‏

وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةَ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ الصَّلَاةَ، وَلَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، وَلَيُصَلِّيَنَّ نِسَاؤُكُمْ وَهُنَّ حُيَّضٌ، وَلَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، وَحَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، لَا تُخْطِئُونَ طَرِيقَهُمْ، وَلَا تُخْطِئُ بِكُمْ، وَحَتَّى تَبْقَى فِرْقَتَانِ مِنْ فِرَقٍ كَثِيرَةٍ تَقُولُ إِحْدَاهُمَا‏:‏ مَا بَالُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ‏؟‏، لَقَدْ ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ‏}‏، لَا تُصَلُّونَ إِلَّا ثَلَاثًا‏.‏ وَتَقُولُ الْأُخْرَى‏:‏ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ كَإِيمَانِ الْمَلَائِكَةِ، مَا فِيهَا كَافِرٌ وَلَا مُنَافِقٌ‏.‏ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَحْشُرَهُمَا مَعَ الدَّجَّالِ‏.‏

وَهَذَا الْمَعْنَى مُوَافِقٌ لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ لَأَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ‏:‏ لَا أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ ‏;‏ فَإِنَّ السُّنَّةُ جَاءَتْ مُفَسِّرَةً لِلْكِتَابِ، فَمَنْ أَخَذَ بِالْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِالسُّنَّةِ ‏;‏ زَلَّ عَنِ الْكِتَابِ كَمَا زَلَّ عَنِ السُّنَّةِ، فَلِذَلِكَ يَقُولُ الْقَائِلُ‏:‏ ‏"‏ لَقَدْ ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا ‏"‏ إِلَى آخِرِهِ‏.‏

وَهَذِهِ الْآثَارُ عَنْ حُذَيْفَةَ مِنْ تَخْرِيجِ ابْنِ وَضَّاحٍ‏.‏

وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ اتَّبِعُوا آثَارَنَا وَلَا تَبْتَدِعُوا‏;‏ فَقَدْ كُفِيتُمْ ‏"‏‏.‏

وَخَرَّجَ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ أَيْضًا‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْضُهُ بِذَهَابِ أَهْلِهِ‏.‏ عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ‏;‏ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يَفْتَقِرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ‏.‏ وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ وَالتَّنَطُّعَ وَالتَّعَمُّقَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ ‏"‏‏.‏

وَعَنْهُ أَيْضًا‏:‏ ‏"‏ لَيْسَ عَامٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، لَا أَقُولُ‏:‏ عَامٌ أَمْطَرُ مِنْ عَامٍ، وَلَا عَامٌ أَخْصَبُ مِنْ عَامٍ، وَلَا أَمِيرٌ خَيْرٌ مِنْ أَمِيرٍ، وَلَكِنْ ذَهَابُ عُلَمَائِكُمْ وَخِيَارِكُمْ، ثُمَّ يُحْدِثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ، فَيُهْدَمُ الْإِسْلَامُ وَيُثْلَمُ‏.‏

وَقَالَ أَيْضًا‏:‏ ‏"‏ كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا أُلْبِسْتُمْ فِتْنَةً، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَيَنْشَأُ فِيهَا الصَّغِيرُ، تَجْرِي عَلَى النَّاسِ، يُحْدِثُونَهَا سُّنَّةً، وَإِذَا غُيِّرَتْ، قِيلَ‏:‏ هَذَا مُنْكَرٌ‏؟‏‏!‏‏.‏

وَقَالَ أَيْضًا‏:‏ ‏"‏ أَيُّهَا النَّاسُ‏!‏ لَا تَبْتَدِعُوا، وَلَا تَنَطَّعُوا، وَلَا تَعَمَّقُوا، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ، خُذُوا مَا تَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا تُنْكِرُونَ ‏"‏‏.‏

وَعَنْهُ أَيْضًا‏:‏ ‏"‏ الْقَصْدُ فِي السُّنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْبِدْعَةِ ‏"‏‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَاهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ عَمَلٌ قَلِيلٌ فِي سُّنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي بِدْعَةٍ‏.‏

وَعَنْهُ أَيْضًا خَرَّجَهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏:‏ إِمَامٌ ضَالٌّ يُضِلُّ النَّاسَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَمُصَوِّرٌ، وَرَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ‏.‏

وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا عَمِلْتُ بِهِ، إِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ ‏"‏‏.‏

خَرَّجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَأْكُلُ أَلْوَانَ الطَّعَامِ، فَقَالَ عُمَرُ لِمَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ يَرْفَأُ‏:‏ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ قَدْ حَضَرَ عَشَاؤُهُ فَأَعْلِمْنِي، فَلَمَّا حَضَرَ عَشَاؤُهُ، أَعْلَمَهُ، فَأَتَاهُ عُمَرُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَرَّبَ عَشَاءَهُ فَجَاءَ بِثَرِيدِ لَحْمٍ، فَأَكَلَ عُمَرُ مَعَهُ مِنْهَا، ثُمَّ قَرَّبَ شِوَاءً، فَبَسَطَ يَزِيدُ يَدَهُ، وَكَفَّ عُمَرُ يَدَهُ ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَاللَّهِ يَا يَزِيدُ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، أَطَعَامٌ بَعْدَ طَعَامٍ‏؟‏‏!‏ وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ، لَئِنْ خَالَفْتُمْ عَنْ سُنَّتِهِمْ، لَيُخَالَفَنَّ بِكُمْ عَنْ طَرِيقِهِمْ‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ‏:‏ ‏"‏ صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ ‏"‏‏.‏

وَخَرَّجَ الْآجُرِّيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ‏[‏رِجَالٌ‏]‏، فَقَالُوا‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ‏!‏ إِنَّا لَقِينَا رَجُلًا يَسْأَلُ عَنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ أَمْكِنِّي مِنْهُ ‏"‏‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ فَبَيْنَمَا عُمَرُ ذَاتَ يَوْمٍ يُغَدِّي النَّاسَ‏;‏ إِذْ جَاءَهُ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَعِمَامَةٌ، فَتَغَدَّى، حَتَّى إِذَا فَرَغَ قَالَ‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ‏{‏وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا‏}‏ فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ أَنْتَ هُوَ‏؟‏ فَقَامَ إِلَيْهِ مُحْسِرًا عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَجْلِدُهُ حَتَّى سَقَطَتْ عِمَامَتُهُ، فَقَالَ‏:‏ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ‏;‏ لَوْ وَجَدْتُكَ مَحْلُوقًا‏;‏ لَضَرَبْتُ رَأْسَكَ‏.‏

أَلْبِسُوهُ ثِيَابَهُ، وَاحْمِلُوهُ عَلَى قَتَبٍ، ثُمَّ أَخْرِجُوهُ حَتَّى تَقْدَمُوا بِهِ بِلَادَهُ، ثُمَّ لِيَقُمْ خَطِيبًا ثُمَّ لِيَقُلْ‏:‏ إِنَّ صَبِيغًا طَلَبَ الْعِلْمَ، فَأَخْطَأَ فَلَمْ يَزَلْ وَضِيعًا فِي قَوْمِهِ حَتَّى هَلَكَ، وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ‏.‏

وَخَرَّجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ عَلَيْكُمْ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ أَبَدًا‏.‏ وَمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ، فَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، إِلَّا كَانَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ قَدْ يَبُسَ وَرَقُهَا، فَهِيَ كَذَلِكَ إِذَا أَصَابَتْهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَتَحَاتَّ عَنْهَا وَرَقُهَا‏;‏ إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتَّ عَنِ الشَّجَرَةِ وَرَقُهَا، فَإِنَّ اقْتِصَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَسُنَّةً خَيْرٌ مِنِ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ، وَانْظُرُوا أَنْ يَكُونَ عَمَلُكُمْ إِنْ كَانَ اجْتِهَادًا وَاقْتِصَادًا أَنْ يَكُونَ عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ‏.‏

وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْ عَامٍ‏;‏ إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً، وَأَمَاتُوا سُنَّةً، حَتَّى تَحْيَا الْبِدَعُ، وَتَمُوتَ السُّنَنُ ‏"‏‏.‏

وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ عَلَيْكُمْ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَالْأَثَرِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْبِدَعَ ‏"‏‏.‏

وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ أَيْضًا‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ أَحْدَثَ رَأْيًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏;‏ لَمْ يَدْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏

وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا‏:‏ ‏"‏ إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا، يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ، وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ، حَتَّى يَأْخُذَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ، فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ‏:‏ مَا لِلنَّاسِ لَا يَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ‏؟‏ مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ، وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ‏.‏

قَالَ الرَّاوِي‏:‏ قُلْتُ لِمُعَاذٍ‏:‏ وَمَا يُدْرِينِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ ضَلَالَةٍ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ‏؟‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ بَلَى‏!‏ اجْتَنِبْ مِنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ ‏(‏غَيْرَ‏)‏ الْمُشْتَهِرَاتِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا‏:‏ مَا هَذِهِ‏؟‏ وَلَا يَثْنِيَنَّكَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يُرَاجِعَ، وَتَلَقَّ الْحَقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ، فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا ‏"‏‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ مَكَانَ ‏(‏الْمُشْتَهِرَاتِ‏)‏‏:‏ الْمُشْتَبِهَاتِ، وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ مَا تَشَابَهَ عَلَيْكَ مِنْ قَوْلٍ، حَتَّى يُقَالَ‏:‏ مَا أَرَادَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ‏؟‏

وَيُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا لَمْ يَشْتَمِلْ ظَاهِرُهُ عَلَى مُقْتَضَى السُّنَّةِ، حَتَّى تُنْكِرَهُ الْقُلُوبُ، وَيَقُولَ النَّاسُ‏:‏ مَا هَذِهِ‏؟‏ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يُحْذَرُ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ حَسْبَمَا يَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ‏.‏

وَمِمَّا جَاءَ عَمَّنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ‏:‏

مَا ذَكَرَ ابْنُ وَضَّاحٍ عَنِ الْحَسَنِ‏;‏ قَالَ‏:‏ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ لَا يَزْدَادُ اجْتِهَادًا- صِيَامًا وَصَلَاةً- إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا‏.‏

وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ لِأَنْ أَرَى فِي الْمَسْجِدِ نَارًا لَا أَسْتَطِيعُ إِطْفَاءَهَا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَى فِيهِ بِدْعَةً لَا أَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا ‏"‏‏.‏

وَعَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ‏:‏ ‏"‏ اتَّبِعْ طُرُقَ الْهُدَى وَلَا يَضُرُّكَ قِلَّةُ السَّالِكِينَ، وَإِيَّاكَ وَطُرُقَ الضَّلَالَةِ وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ ‏"‏‏.‏

وَعَنِ الْحَسَنِ‏:‏ ‏"‏ لَا تُجَالِسْ صَاحِبَ هَوًى فَيَقْذِفَ فِي قَلْبِكَ مَا تَتَّبِعُهُ عَلَيْهِ فَتَهْلِكَ، أَوْ تُخَالِفَهُ فَيَمْرَضَ قَلْبُكَ ‏"‏‏.‏

وَعَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ كَتَبَ اللَّهُ صِيَامَ رَمَضَانَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَمَا كَتَبَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، فَأَمَّا الْيَهُودُ‏;‏ فَرَفَضُوهُ، وَأَمَّا النَّصَارَى‏;‏ فَشَقَّ عَلَيْهِمُ الصَّوْمُ، فَزَادُوا فِيهِ عَشْرًا، وَأَخَّرُوهُ إِلَى أَخَفِّ مَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ فِيهِ الصَّوْمُ مِنَ الْأَزْمِنَةِ ‏"‏‏.‏

فَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ عَمَلٌ قَلِيلٌ فِي سُّنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ عَمَلٍ كَثِيرٍ فِي بِدْعَةٍ ‏"‏‏.‏

وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ‏:‏ ‏"‏ لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، وَلَا تُجَادِلُوهُمْ‏;‏ فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ، وَيُلَبِّسُوا عَلَيْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ ‏"‏‏.‏

قَالَ أَيُّوبُ‏:‏ ‏"‏ وَكَانَ وَاللَّهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ ذَوِي الْأَلْبَابِ ‏"‏‏.‏

وَعَنْهُ أَيْضًا‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ أَهْلُ ضَلَالَةٍ، وَلَا أَرَى مَصِيرَهُمْ إِلَّا إِلَى النَّارِ ‏"‏‏.‏

وَعَنِ الْحَسَنِ‏:‏ ‏"‏ لَا تُجَالِسْ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَإِنَّهُ يُمْرِضُ قَلْبَكَ ‏"‏‏.‏

وَعَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ مَا ازْدَادَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ اجْتِهَادًا، إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا ‏"‏‏.‏

وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ‏:‏ ‏"‏ مَا ابْتَدَعَ رَجُلٌ بِدْعَةً إِلَّا اسْتَحَلَّ السَّيْفَ ‏"‏‏.‏

وَكَانَ أَيُّوبُ يُسَمِّي أَصْحَابَ الْبِدَعِ خَوَارِجَ، وَيَقُولُ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ الْخَوَارِجَ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْمِ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى السَّيْفِ ‏"‏‏.‏

وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ كَانَ رَجُلٌ فَقِيهٌ يَقُولُ‏:‏ مَا أُحِبُّ أَنِّي هَدَيْتُ النَّاسَ كُلَّهُمْ وَأَضْلَلْتُ رَجُلًا وَاحِدًا ‏"‏‏.‏

وَخَرَّجَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ لَا يَسْتَقِيمُ قَوْلٌ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَلَا قَوْلٌ وَعَمَلٌ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا نِيَّةٌ، إِلَّا مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ ‏"‏‏.‏

وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ كَانَ يَرَى أَسْرَعَ النَّاسِ رِدَّةً أَهْلَ الْأَهْوَاءِ‏.‏

وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ‏:‏ ‏"‏ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَرْتَدَّ قُلُوبُكُمْ ‏"‏‏.‏

وَعَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ صِيَامًا وَلَا صَلَاةً وَلَا حَجًّا وَلَا جِهَادًا وَلَا عُمْرَةً وَلَا صَدَقَةً وَلَا عِتْقًا وَلَا صَرْفًا وَلَا عَدْلًا ‏"‏‏.‏

زَادَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ‏:‏ ‏"‏ وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَشْتَبِهُ فِيهِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ‏;‏ لَمْ يَنْفَعْ فِيهِ دُعَاءٌ إِلَّا كَدُعَاءِ الْغَرَقِ ‏"‏‏.‏

وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ إِذَا لَقِيتَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فِي طَرِيقٍ‏;‏ فَخُذْ فِي طَرِيقٍ آخَرَ‏.‏

وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ‏:‏ ‏"‏ مَنْ جَالَسَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ، نُزِعَتْ مِنْهُ الْعِصْمَةُ، وَوُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ‏.‏

وَعَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِابْنِهِ‏:‏ ‏"‏ يَا عِيسَى، أَصْلِحْ قَلْبَكَ وَأَقْلِلْ مَالَكَ ‏"‏‏.‏

وَكَانَ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ وَاللَّهِ لَأَنْ أَرَى عِيسَى فِي مَجَالِسِ أَصْحَابِ الْبَرَابِطِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْبَاطِلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَاهُ يُجَالِسُ أَصْحَابَ الْخُصُومَاتِ ‏"‏‏.‏

قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ‏:‏ ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ أَهْلَ الْبِدَعِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ رِجَالٌ لِـ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ‏:‏ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَنِ السُّنِّيُّ‏؟‏ ‏[‏قَالَ‏]‏‏:‏ ‏"‏ الَّذِي إِذَا ذُكِرَتِ الْأَهْوَاءُ لَمْ يَغْضَبْ لِشَيْءٍ مِنْهَا ‏"‏‏.‏

وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ الَّذِي تُعْرَضُ عَلَيْهِ السُّنَّةُ فَيَقْبَلُهَا الْغَرِيبُ، وَأَغْرَبُ مِنْهُ صَاحِبُهَا ‏"‏‏.‏

وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الشَّيْبَانِيِّ ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ كَانَ يُقَالُ‏:‏ يَأْبَى اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ بِتَوْبَةٍ، وَمَا انْتَقَلَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ إِلَّا إِلَى شَرٍّ مِنْهَا ‏"‏‏.‏

وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ‏:‏ ‏"‏ تَعَلَّمُوا الْإِسْلَامِ، فَإِذَا تَعَلَّمْتُمُوهُ‏;‏ فَلَا تَرْغَبُوا عَنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ‏;‏ فَإِنَّهُ الْإِسْلَامُ، وَلَا تُحَرِّفُوا يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَعَلَيْكُمْ بِسُّنَّةِ نَبِيِّكُمْ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْتُلُوا صَاحِبَهُمْ وَمِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْعَلُوا الَّذِي فَعَلُوا، قَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْتُلُوا صَاحِبَهُمْ وَمِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْعَلُوا الَّذِي فَعَلُوا، وَإِيَّاكُمْ وَهَذِهِ الْأَهْوَاءَ الَّتِي تُلْقِي بَيْنَ النَّاسِ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ‏"‏‏.‏

فَحُدِّثَ الْحَسَنُ بِذَلِكَ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ رَحِمَهُ اللَّهُ، صَدَقَ وَنَصَحَ ‏"‏‏.‏

خَرَّجَهُ ابْنُ وَضَّاحٍ وَغَيْرُهُ‏.‏

وَكَانَ مَالِكٌ كَثِيرًا مَا يُنْشِدُ‏:‏

وَخَيْرُ أُمُورِ الدِّينِ مَا كَانَ سُّنَّةً *** وَشَرُّ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَاتُ الْبَدَائِعُ وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ؛ قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَهْلُ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ آفَةُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، فَيَتَصَيَّدُونَ بِهَذَا الذِّكْرِ الْحَسَنِ عِنْدَ الْجُهَّالِ مِنَ النَّاسِ، فَيَقْذِفُونَ بِهِمْ فِي الْمَهَالِكِ، فَمَا أَشْبَهَهُمْ بِمَنْ يَسْقِي الصَّبْرَ بِاسْمِ الْعَسَلِ، وَمَنْ يَسْقِي السُّمَّ الْقَاتِلَ بِاسْمِ التِّرْيَاقِ، فَأَبْصِرْهُمْ‏;‏ فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَكُنْ أَصْبَحْتَ فِي بَحْرِ الْمَاءِ، فَقَدْ أَصْبَحْتَ فِي بَحْرِ الْأَهْوَاءِ الَّذِي هُوَ أَعْمَقُ غَوْرًا، وَأَشَدُّ اضْطِرَابًا، وَأَكْثَرُ صَوَاعِقَ، وَأَبْعَدُ مَذْهَبًا مِنَ الْبَحْرِ وَمَا فِيهِ، فَتِلْكَ مَطِيَّتُكَ الَّتِي تَقْطَعُ بِهَا سَفَرَ الضَّلَالِ، اتِّبَاعُ السُّنَّةِ ‏"‏‏.‏

وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ‏:‏ ‏"‏ اعْلَمْ أَيْ أَخِي أَنَّ الْمَوْتَ كَرَامَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ عَلَى السُّنَّةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَإِلَى اللَّهِ نَشْكُو وَحْشَتَنَا، وَذَهَابَ الْإِخْوَانِ، وَقِلَّةَ الْأَعْوَانِ، وَظُهُورَ الْبِدَعِ‏.‏ وَإِلَى اللَّهِ نَشْكُو عَظِيمَ مَا حَلَّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ ذَهَابِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَظُهُورِ الْبِدَعِ ‏"‏‏.‏

وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي بِدِينِكَ وَبِسُّنَّةِ نَبِيِّكَ، مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْحَقِّ، وَمِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَمِنْ سُبُلِ الضَّلَالَةِ، وَمِنْ شُبُهَاتِ الْأُمُورِ، وَمِنَ الزَّيْغِ وَالْخُصُومَاتِ ‏"‏‏.‏

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ كَانَ يَكْتُبُ فِي كُتُبِهِ‏:‏ ‏"‏ إِنِّي أُحَذِّرُكُمْ مَا مَالَتْ إِلَيْهِ الْأَهْوَاءُ وَالزِّيَغُ الْبَعِيدَةُ ‏"‏‏.‏

وَلَمَّا بَايَعَهُ النَّاسُ‏;‏ صَعِدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَيُّهَا النَّاسُ‏!‏ إِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ نَبِيٌّ، وَلَا بَعْدَ كِتَابِكُمْ كِتَابٌ، وَلَا بَعْدَ سُنَّتِكُمْ سُّنَّةٌ، وَلَا بَعْدَ أُمَّتِكُمْ أُمَّةٌ، أَلَا وَإِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ حَلَالٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَلَا وَإِنَّ الْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ وَلَكِنِّي مُتَّبِعٌ، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِقَاضٍ وَلَكِنِّي مُنَفِّذٌ، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِخَازِنٍ وَلَكِنِّي أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِخَيْرِكُمْ وَلَكِنِّي أَثْقَلُكُمْ حِمْلًا‏.‏ أَلَا وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ‏"‏‏.‏ ثُمَّ نَزَلَ‏.‏

وَفِيهِ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ أُذَيْنَةَ عَنْ أُذَيْنَةَ يَرْثِيهِ بِهَا‏:‏

وَأَحْيَيْتَ فِي الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَسُنَّةً *** وَلَمْ تَبْتَدِعْ حُكْمًا مِنَ الْحُكْمِ أضْجَعَا فَفِي كُلِّ يَوْمٍ كُنْتَ تَهْدِمُ بِدْعَةً *** وَتَبْنِي لَنَا مِنْ سُنَّةٍ مَا تَهَدَّمَا وَمِنْ كَلَامِهِ الَّذِي عُنِيَ بِهِ وَيَحْفَظُهُ الْعُلَمَاءُ وَكَانَ يُعْجِبُ مَالِكًا جِدًّا، وَهُوَ أَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنًا، الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا تَبْدِيلُهَا وَلَا النَّظَرُ فِي شَيْءٍ خَالَفَهُ، مَنْ عَمِلَ بِهَا مُهْتَدٍ، وَمَنِ انْتَصَرَ بِهَا مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى، وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏"‏‏.‏

وَبِحَقٍّ مَا كَانَ يُعْجِبُهُمْ‏;‏ فَإِنَّهُ كَلَامٌ مُخْتَصَرٌ، جَمَعَ أُصُولًا حَسَنَةً مِنَ السُّنَّةِ‏:‏

مِنْهَا مَا نَحْنُ فِيهِ‏;‏ لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا وَلَا تَبْدِيلُهَا وَلَا النَّظَرُ فِي شَيْءٍ خَالَفَهَا ‏"‏، قَطْعٌ لِمَادَّةِ الِابْتِدَاعِ جُمْلَةً‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ مَنْ عَمِلَ بِهَا مُهْتَدٍ إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ مَدْحٌ لِمُتَّبِعِ السُّنَّةِ، وَذَمٌّ لِمَنْ خَالَفَهَا بِالدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعُ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا‏}‏‏.‏

وَمِنْهَا مَا سَنَّهُ وُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏;‏ فَهُوَ سُّنَّةَ‏;‏ لَا بِدْعَةَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصٌّ عَلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ نَصُّ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ فِيهِ‏:‏

فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ‏.‏

فَقَرَنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا تَرَى سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِسُنَّتِهِ، وَإِنَّ مِنِ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ اتِّبَاعَ سُنَّتِهِمُ، وَإِنَّ الْمُحْدَثَاتِ خِلَافُ ذَلِكَ، لَيْسَتْ مِنْهَا فِي شَيْءٍ، لِأَنَّهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيمَا سَنُّوهُ‏:‏ إِمَّا مُتَّبِعُونَ لِسُّنَّةِ نَبِيِّهِمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفْسِهَا، وَإِمَّا مُتَّبِعُونَ لِمَا فَهِمُوا مِنْ سُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ عَلَى وَجْهٍ يَخْفَى عَلَى غَيْرِهِمْ مِثْلُهُ، لَا زَائِدَ عَلَى ذَلِكَ‏.‏

وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ بِحَوْلِ اللَّهِ‏.‏

عَلَى أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمَ نَقَلَ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ قَوْلَ السَّلَفِ الصَّالِحِ‏:‏ ‏"‏ سُنَّةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ‏"‏، أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ‏:‏ ‏"‏ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ السُّنَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْلِ أَحَدٍ ‏"‏‏.‏

وَمَا قَالَ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، فَهُوَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَا زَائِدَ إِذًا عَلَى مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ‏;‏ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يُخَافُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِسُنَّةٍ أُخْرَى، فَافْتَقَرَ الْعُلَمَاءُ إِلَى النَّظَرِ فِي عَمَلِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي مَاتَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏;‏ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَاسِخٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِهِ‏.‏

وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَنَى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي احْتِجَاجِهِ بِالْعَمَلِ، وَرُجُوعِهِ إِلَيْهِ عِنْدَ تَعَارُضِ السُّنَنِ‏.‏

وَمِنَ الْأُصُولِ الْمُضَمَّنَةِ فِي أَثَرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ‏:‏ أَنَّ سُنَّةَ وُلَاةِ الْأَمْرِ وَعَمَلَهُمْ تَفْسِيرٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ ‏"‏‏.‏

وَهُوَ أَصْلٌ مُقَرَّرٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَدْ جَمَعَ كَلَامُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ أُصُولًا حَسَنَةً وَفَوَائِدَ مُهِمَّةً‏.‏

وَمِمَّا يُعْزَى لِـ أَبِي إِلْيَاسَ الْأَلْبَانِيِّ‏:‏ ‏"‏ ثَلَاثٌ لَوْ كُتِبْنَ فِي ظُفُرٍ‏;‏ لَوَسِعَهُنَّ، وَفِيهِنَّ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏:‏ اتَّبِعْ لَا تَبْتَدِعْ، اتَّضِعْ لَا تَرْتَفِعْ، وَمَنْ وَرِعَ لَا يَتَّسِعُ ‏"‏‏.‏ وَالْآثَارُ هُنَا كَثِيرَةٌ‏.‏